"التمييز الرقمي".. كيف يحوّل ترامب معركة الضرائب على التكنولوجيا إلى مواجهة حقوقية؟

"التمييز الرقمي".. كيف يحوّل ترامب معركة الضرائب على التكنولوجيا إلى مواجهة حقوقية؟
دونالد ترامب


بينما يُفترض أن تكون ضرائب الخدمات الرقمية وتشريعات الاتحاد الأوروبي الجديدة أداةً لضبط السوق الرقمية وحماية المستهلكين، يحوّل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه الإجراءات إلى معركة ذات طابع حقوقي، ولكن بمعايير انتقائية، فتهديداته الأخيرة بفرض رسوم جمركية وعقوبات على الدول الأوروبية التي تُطبّق هذه السياسات، تفتح باباً واسعاً حول استخدام لغة "الحقوق" كسلاح تجاري وسياسي، ليس للدفاع عن الأفراد، بل لحماية مصالح الشركات العملاقة.

في هذا التقرير، ترصد “جسور بوست” كيف تناولت "الغارديان" و"فايننشيال تايمز" و"رويترز" الملف، وكيف يمكن قراءة هذا الصراع من زاوية حقوقية تُظهر انزلاق الخطاب الحقوقي إلى أداة ضغط سياسي وتجاري.

أفردت صحيفة "الغارديان"، اليوم الثلاثاء، مساحة واسعة لتهديدات ترامب ضد الدول الأوروبية، معتبرةً أنها تُعيد إحياء التوترات التجارية بين ضفتي الأطلسي، فقد أعلن الرئيس الأمريكي أنه سيقف ضد "أي تمييز" يستهدف شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى مثل أبل وغوغل وأمازون وميتا، وقال في منشور على منصته "تروث سوشيال": "الضرائب والتشريعات والقواعد واللوائح الرقمية جميعها مصممة للإضرار بالتكنولوجيا الأمريكية أو التمييز ضدها".

ورصدت الصحيفة أن بريطانيا وحدها تجمع نحو 800 مليون جنيه إسترليني سنوياً من خلال "ضريبة الخدمات الرقمية" بنسبة 2% على إيرادات الشركات التكنولوجية العالمية، غير أن ترامب يرى أن هذه الإجراءات تمنح امتيازاً غير عادل للشركات الصينية التي لا تشملها الضريبة، ومن هنا يلوّح بفرض رسوم جمركية ضخمة على صادرات هذه الدول إلى الولايات المتحدة، بل وقيود على تصدير التقنيات والرقائق الأمريكية.

من منظور حقوقي، يطرح هذا الخطاب إشكالية خطيرة: إذ يتم تصوير الضرائب الأوروبية كأداة "تمييز" ضد شركات أمريكية، بينما تتجاهل اللغة المستخدمة أن هذه التشريعات جاءت استجابة لمطالب اجتماعية وأخلاقية بضرورة تحقيق العدالة الضريبية في عصر الاقتصاد الرقمي.

حماية المستهلك

أما "فايننشيال تايمز" فقد ركزت على أن تهديدات ترامب تمثل ضغطاً هائلاً على بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي في وقتٍ حساس، حيث يجري تطبيق تشريعات واسعة مثل "قانون الخدمات الرقمية" و"قانون الأسواق الرقمية".

ووفقاً للصحيفة، تهدف هذه القوانين إلى كبح هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى، وضمان أن تكون المنصات الرقمية أكثر شفافية في التعامل مع بيانات المستخدمين، وأكثر التزاماً بمكافحة خطاب الكراهية والتضليل.

لكن في المقابل، يُصر ترامب على أن هذه التشريعات مصممة أساساً للإضرار بالولايات المتحدة، وتضيف الصحيفة أن الرئيس الأمريكي أصدر في فبراير مرسوماً تنفيذياً بعنوان "حماية الشركات والمبتكرين الأمريكيين من الابتزاز الخارجي والغرامات والعقوبات غير العادلة"، في إشارة مباشرة إلى الضرائب واللوائح الأوروبية.

وهنا يظهر بُعد حقوقي دقيق: أوروبا تُبرر تشريعاتها بأنها ضرورية لضمان حق الأفراد في الحماية من التلاعب الرقمي وضمان شفافية الخوارزميات، بينما يقدّم ترامب خطاباً معاكساً يعتبر أن هذه القوانين نفسها تنتهك "حقوق الشركات" و"الحرية الاقتصادية" لأمريكا، وهكذا، يتحوّل مفهوم الحقوق من أداة لحماية الأفراد إلى سلاح دفاعي عن كيانات اقتصادية عملاقة

ومن جانبها، أضافت وكالة رويترز بُعداً أكثر خطورة في تغطيتها للموضوع، أمس الاثنين، حيث كشفت أن إدارة ترامب تدرس فرض عقوبات مباشرة على مسؤولين أوروبيين مشاركين في تطبيق قوانين مثل "قانون الخدمات الرقمية"، وتشمل العقوبات المحتملة قيوداً على منح التأشيرات، في خطوة غير مسبوقة تجاه دول حليفة للولايات المتحدة.

وتوضح الوكالة أن واشنطن باتت تقدم هذه الإجراءات كدفاع عن حرية التعبير الأمريكية، متهمةً بروكسل بأنها تمارس "رقابة" على المنصات الأمريكية عبر فرض قواعد صارمة لمكافحة خطاب الكراهية أو المعلومات المضللة.

لكن هنا يبرز التناقض الحقوقي: فبينما تسعى أوروبا لتقليص الأضرار الاجتماعية الناتجة عن ترك المحتوى بلا ضوابط، تتهمها واشنطن بأنها تعتدي على حرية التعبير، بهذا الشكل، ينقلب النقاش من كونه صراعاً على قواعد السوق إلى مواجهة حول من يملك تفسير الحقوق الأساسية في الفضاء الرقمي.

الحقوق كسلاح

من خلال متابعة التقارير الثلاثة، يمكن القول إن خطاب ترامب يحوّل الضرائب والتشريعات الأوروبية إلى قضية حقوقية "مزيفة" فهو يخلط بين الحقوق الاقتصادية للشركات (أي حماية أرباح شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة من الضرائب)، والحقوق الرقمية للمستهلكين (أي ضمان أن يحصل المواطنون الأوروبيون على بيئة رقمية آمنة وشفافة)، بعيداً عن الاستغلال التجاري والتضليل الإعلامي.

وبين هذين المستويين، تُختطف لغة "الحقوق" لصالح الأقوى، فبدلاً من أن تكون الأداة التي تحمي الأفراد، تصبح الحجة التي تدافع بها الدول عن مصالحها التجارية.

وما تكشفه هذه الأزمة –كما توضح تغطيات الغارديان وفايننشيال تايمز ورويترز– هو أن الحقوق الرقمية لم تعد موضوعاً داخلياً أوروبياً أو أمريكياً، بل صارت جزءاً من التنافس الجيوسياسي، أوروبا تتحدث عن حق شعوبها في بيئة رقمية عادلة، وفي حماية المستهلك من تغوّل المنصات.

 وتعتبر الولايات المتحدة –من خلال إدارة ترامب– أن هذه الإجراءات تمثل انتهاكاً لحقوق شركاتها الوطنية، وتلوّح بردود عقابية قد تصل إلى حد العقوبات الدبلوماسية.

والنتيجة أن الحقوق تُفرغ من مضمونها الإنساني وتتحول إلى ورقة في صراع القوة بين الكتل الكبرى، وهذا يعكس أزمة أوسع يعيشها النظام الدولي لحقوق الإنسان، حيث تختلط الحدود بين ما هو حق إنساني وما هو مصلحة اقتصادية.

وإذا كان من درس يمكن استخلاصه من هذا الجدل، فهو أن المعركة حول الحقوق الرقمية ليست بين حماية التعبير أو حماية المستهلك فقط، بل هي في جوهرها معركة حول من يملك تعريف الحقوق نفسها، ومن يفرض روايته على العالم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية